الحصول على جنسية بلدٍ ما مثل السويد على سبيل المثال ليس كافٍ للإجابة على أسئلة الهوية التي تتولد لدى المهاجر، بل ربما هي التي تفتح الباب واسعاً أمام تلك الأسئلة، وقد لا تكون تلك الأسئلة ملحة بالنسبة للمواطن السويدي الأصل، وربما لم يفكر بها المرء قبل هجرته إلى بلدٍ ما، رغم أننا قد نحتاج دائما إلى تطوير تعريفينا لهويتنا، فهي ليست فقط الجواب البديهي البسيط أنا فلسطيني، سوري، أمريكي أو عراقي، لأن للهوية أبعاد كثيرة فهي بالتعريف ماهية أكثر منها هوية أي محتوى ثقافي حضاري تاريخي مجبول بنظرة مستقبلية لطموحات الهوية على المستوي الفردي والجماعي. مع الأخذ بعين الاعتبار بأن التمسك بالهوية الأصلية هو المفتاح لاكتساب هوية جديدة. وثمة مثل شعبي يقول "من ليس له قديم ليس له جديد". بالعموم شروط الحصول على الجنسية بالسويد مثلاً سهلة للغاية وتدور حول شرط واحد وهو مدة الإقامة بالبلد، بالطبع ليس المطلوب تعقيدها كي لا يفهم الموضوع في غير سياقه، بيد أن الموضوع يتعلق بتناقضات الهوية وضرورة الوصول إلى تسوية للتناقضات على الأقل بين الشخص وذاته وبدافع ذاتي وليس تحت سطوة قانون ما أو ضغوط من أي نوع، كمقدمة لتسوية الأمر بين الشخص ومجتمعه الجديد. رغم الحصول على الجنسية هل يستطيع المرء ببساطة القول إنه يحمل الهوية السويدية، وما الذي يلزم بالحد الأدنى لقول ذلك، وهل السعي وراء اكتساب هوية جديدة يعني التخلي عن الهوية القديمة، وهل يمكن للمرء أن يحمل أكثر من هوية أو بالأحرى يغني هويته الأصلية بعناصر هوياتية جديدة، من خلال الإجابة على السؤال الأخير يمكننا الإجابة على الأسئلة السابقة بسهولة أكثر. نعم يمكن للمرء أن يحمل أكثر من هوية إذا اعتبرنا الهوية ماهية ومحتوى لا محدود من عناصر معينة قابلة للتطور والإغناء، فيمكن للإنسان أن يكون متعدد الهويات عبر تشبعه بعناصر هوياتية متنوعة، أو لنقل إنه صاحب هوية قابلة للإغناء والتطوير، لذا قد يبدو الإحساس بعناصر الهوية الأصلية أمر أساسي وضروري لاكتساب هوية جديدة، لأن من لا يعي عناصر هويته الأصلية لا يمكنه اكتساب هوية جديدة حتى لو كان يحمل جنسية البلد الجديد منذ عقود، لذلك نستطيع أن نرى شخص يعيش تناقضات الهوية بعد إقامة لأكثر من ثلاثين سنة في السويد، ونرى شخص آخر لم يمضي على إقامته أكثر من خمس سنوات يعرف نفسه بأنه يمتلك بعض عناصر الهوية السويدية، أو على الأقل يتقبل الهوية الثقافية للبلد الجديد برحابة صدر. إغناء الهوية يحمينا من نوازعنا العنصرية ومن عنصرية الآخر اتجاهنا بالمعنى الإنساني الجديد للهوية في مجتمع متنوع مثل المجتمع السويدي، يتراجع العامل العرقي إلى آخر سلم محددات الهوية، ويتقدم على ذلك المفهوم الثقافي بالبعد الإنساني بوصفه المحدد الأول لهوية أصيلة قابلة للإغناء وليس الذوبات، ولكن لماذا علينا أن نسعى لإغناء هويتنا الأصلية بعناصر هوياتية جديدة تعزز انتمائنا للمجتمع الجديد دون أن تلغي تعريفنا الأصلي لأنفسنا، الحقيقة إن العنصرية تتغذى على الإنعزالية وتتسرب من الثغرات، رغم أن لا شي يبرر العنصرية، بيد أن المرء في مجتمع جديد يحمي نفسه من العنصرية فيما لو تمكن من سد تلك الثغرات التي تتغذى عليها العنصرية، وهنا يمكن القول أن انعزال المرء عن مجتمعه الجديد وتقوقعه على نفسه يوقعه دون وعي بعنصرية قد تنمو بداخله اتجاه الآخر، تغذي عنصرية الآخر اتجاهه، قد يكون ذلك نوع من الفلسفة ولكن لا بد من طرح الأمور كما هي كي نعرف ما لنا وما علينا في مجتمع قررنا الانتماء له والعيش فيه. الهوية الثقافية إن صح التعبير هي ما يجب أن نسعى لإغنائه على الدوام، فهي وإن كان الماضي يحددها بأساس معين فهي لا تقبل الثبات والتقوقع في متاهات التاريخ، بل هي كفاح دائم من أجل الانتماء السليم لمجتمع أوسع من مجتمع القبيلة أو العصبية الأولى، بل على العكس إن ذلك مقتل حتى للهوية الأصلية، فما بالكم إذ نتحدث عن ضرورة الاندماج بمجتمع جديد نحمل جنسيته، هل العلاقة بيني وبين المجتمع الجديد مجرد جنسية وجواز سفر، أم أنني أعيش هنا وأعمل هنا، وأحتاج إلى أدوات تسهل التواصل بيني وبين المجتمع الجديد، قد تكون اللغة هي الحد الأدنى المطلوب الذي يفتح الباب واسعاً على عناصر هوياتية أخرى، والمسألة هنا ليست تواصل فقط فالتواصل هو أيضاً الحد الأدنى الذي يمكنني من العيش، الأهم هو الإحساس بتقاسم المصير، مثل التفكير بمستقبل المناخ أو أزمة المياه، والسلم الأهلي ومن سيحكم البلد وغيرها من الأسئلة المصيرية، وهنا نصل إلى الديمقراطية كأدة من الأدوات التي تساعد في أن يصبح المرء مشارك في صناعة الحاضر والمصير، المشاركة في الانتخابات على سبيل المثال تؤكد جزء من عناصر الهوية، إن عدم المشاركة مقياس على ضعف الانتماء أو لنقل عدم قناعة بضرورة اغناء الهوية، عندما لا يشعر المرء بأنه يتقاسم المصير مع المجتمع. بالنهاية لا بد من القول إن السعي للإجابة على أسئلة الهوية هو مسعى فردي بالدرجة الأولى، ويمكن أن يكون جماعي ليس في إطار عرقي بل ربما ضمن مجموعة ثقافية معينة أو فريق عمل أو زملاء مدرسة أو جامعة أو غيرها من الروابط المجتمعية، ولكن إذا انتقلنا إلى مفهوم الجاليات يبدو الأمر أكثر تعقيداً إذ على تلك الجاليات عدم تعزيز الانطوائية بقدر ما يجب أن تحث أفرادها على الاندماج، وهذا لا يتعارض مع تعزيز الهويات الأصلية والتذكير بها خاصة عند الأجيال الجديدة، شرط ألا يكون ذلك مدخل للانطواء والتقوقع على الذات، بل تعزيز الأصالة لتكون أساس لاكتساب هوية جديدة أكثر رحابة ضمن ثقافة التنوع والانتماء إلى الأسرة العالمية إن صح التعبير في بلد أنجز الكثير على صعيد تطوير الهوية ليستوعب هذا الكم الهائل من التنوع. بقلم رئيس التحرير مصطفى قاعود