الأرض: هذا الكوكب الجميل الذي يتشارك فيه ما يزيد عن سبع مليارات ونصف نسمة من البشر بأحقية العيش عليه، تعاني اليوم كما نعرف جميعنا من وباء قاتل وفتاك، ينتشر فيها بسرعة النار في الهشيم، ليسقط في كل يوم المزيد والمزيد من ضحاياه. لا مجال هنا - في هذا المقال - للحديث عن أعراض المرض وسبل الوقاية، أوعن القلق والخوف الذي نتشاركه جميعاً إزاء سرعة وحجم انتشاره، ولا مكان حتى لعبارات الحزن على من سقط من ضحاياه، فجميعنا بات مدركاً واعياً متأثراً لكل ذلك.ومع ذلك، فلا بأس من متابعة القراءة، فلعل ما سأذكره ها هنا يساعدنا قليلاً بمواساة أنفسنا، ومن ثم في تقبل واقعنا اليوم، ومصيرنا الذي قد يكون محتوماً في الغد. في هذا المقال لن نحتاج إلا للإجابة على سؤال قصير واحد وهو: لماذا جاء هذا المرض؟ لتتخيل نفسك سيدي القارئ في رحلة سياحية لكوكب القمر. هناك بعيداً حيث حدث وتقطعت بمركبتك السبل، وتمكنت أنت بطريقة ما من النجاة والاستمرار في العيش، بانتظار قدوم المساعدة من كوكب الأرض. وبينما أنت جالساً تنتظر هناك في ضيافة أصدقائنا من الفضائيين من أهل القمر، قررت أن تسلي نفسك بأن تجرب ذلك التلسكوب المتطور العملاق الذي لديهم، والذي يمكن المرء من مراقبة كل صغيرة وكبيرة تجري فوق سطح كوكبنا الأرض. فشاهدت من هناك مجريات تلك الحروب الدموية الجارية على أرضنا اليوم، ورغم أن دخانها كان لافتاً وكثيفاً وغطى تقريباً على كل شيء أخر، إلا أنك شاهدت جلياً مختلف أنواع المآسي التي حلت بكل شيء بسببها، وكيف أنها لم ترحم صغيراً ولا كبيراً. وعندما قربت عدسة التلسكوب أكثر، بدأت شيئاً فشيئاً بمشاهدة مختلف أصناف الكوارث التي تقوم مجتمعاتنا البشرية بإنتاجها على الأرض بلا هوادة. فشاهدت المصانع التي حولت ملايين البشر لمجرد ألات لا تتوقف عن تصنيع ما يأمر به أسيادها، وشاهدت ملايين البشر الذين أصبحوا كذلك كالعبيد اللاهثين وراء تلك المنتجات على اختلاف أنواعها وأشكالها، وشاهدت أيضاً الحجم المخيف للخراب والدمار البيئي الناتج عن كل ذلك. فضولك بالطبع لم يكن ليتوقف هنا، حيث أنك أخذت بالتقريب أكثر فأكثر، وكلما قربت أكثر، بدأت ترى أشكال أخرى متجددة من الظلم والقهر والاضطهاد لم تكن لتتخيل يوماً وجودها بهذه القسوة والبشاعة في حياتنا المعتادة على الأرض. فرأيت فيما رأيت ما يكفي من المؤامرات والألاعيب السياسية التي تطبق بشكل ممنهج على شعوب العالم، وشاهدت كيف تقاد تلك الدول بالظلم والطغيان، ورأيت كذلك الملايين من المستضعفين والأحرار يختطفون في وضح النهار ويسحبون مكبلين بالأغلال، ليتم توزيعهم على الملايين من السجون المخفية تحت سطح الأرض، ومن ثم تجلس جميع تلك الدول مشتركة وتحتفل بتوقيع ميثاقاً جديداً لحقوق الإنسان. وفي لحظة ما راودتك نفسك للضغط على ذلك الزر الأحمر الصغير المخبأ على جانب ذلك التلسكوب، وإذا بك تتمكن بلحظات من اختراق الأسقف والجدران، وترى ما هو أعمق وأعمق . وتتصارع مع نفسك، هل علي أن أنظر؟ ألا أستطيع فقط التجربة؟ يكاد الفضول يقتلك، فتسمح لنفسك بانتهاك حرمة منزل، أو منزلين. فترى هنالك أباً يضرب أماً أمام أبنائها، وترى الدموع تنهمر. وفي المنزل المجاور ترى الدماء في كل مكان، ثم ترى فتاة على الأرض قد نحرت، لأن أحد أهلها أحس بدقاق قلبها وكأنها قد تسارعت عند ما مر شاب وسيم أمام باب بيتها، وأحبها وأحبته. تلعن حينها سوء اختيارك وتبحث في الحي عن مكان أخر تلتمس فيه بصيص نور.فترى أماماً لمسجد وقسيساً لكنيسة يلتقيان ليلاً، فيتصافحان ويتعانقان، ويمضيا سراً في طريقهما معاً، قاصدين إحدى دور البغاء، يبتغون فيها المساهمة بأعاده أحياء ما تبقى من تراث استعباد الرقيق من النساء والرجال، بعد أن كانوا قد حدثوا الناس طيلة نهارهم عن العفة والطهارة.وتختار سريعاً الانتقال لمدينة أخرى حيث علامات التحضر والرقي ظاهرة هناك بوضوح للعيان، وبينما أنت تتنقل بين كل تلك الفلل الفارهة والسهرات والولائم المليئة بالأغاني والرقص والفرح. تلمح بضع أطفالاً تبحث بين أكوام القمامة، وعندما يتم اكتشافهم يجرون هاربين ليختبئا في مجارير الصرف الصحي لمدينتهم الفارهة، هناك حيث كان أباهم قد انتحر بجرعة زائدة، بعدما عجز عقله عن تفهم مجتمعٍ حرم فيه فقرائه حتى من فضلات أغنيائه.تتنقل عشوائياً بين القارات، وفي كل بلاد تبحث فيها، تجد هناك الملايين يغشون ويرتشون ويسرقون، فيما يجلس السياسيين ويقامرون بكل شيء. يبدو أنك قد سأمت الآن من كل شيء على هذا الكوكب الملعون، وإن كان لا بد فعليك الذهاب لملجأك الوحيد عليها، لرؤية مخبأ أسرارك الذي ائتمنته دائماً على كل شيء، صديقك! وها أنت هنا أخيراً قد وجدته، يجلس هناك مع الأخرين في مكان ما، ويبوح لهم بكل شيء. انتهى الحلم الآن!ليس بالطبع لانتهاء أحداثه، إنما لأن حالتك لم تعد تسمح لك برؤية المزيد.لعلك سيدي القارئ أردت رؤية أمور أخرى غير تلك التي أمليتها عليك. كرؤية الأمل في وجوه الأطفال على مقاعد الدراسة.أو رؤية نجومك المفضلين من ممثلين ومطربين ولاعبي كرة قدم وغيرهم. لعلك تبحث فقط عن الأمل والسعادة والجمال كما نفعل جميعناً كل يوم. فالأرض مليئة بالنماذج الناجحة وليست كلها كما صورت لك في هذا المقال. على أي حال، وأي كان ما فكرت به، فقد عدت الآن إلى الواقع على الأرض، والشيء الوحيد الذي ستراه في كل مكان الآن هو: مطعم حيوانات صغير، في حي صيني شعبي مزدحم، في مدينة تسمى ووهان. يبيع بعض الخفافيش الموبوءة، ولهذا جاء هذا المرض. بقلم MOHAMAD SOLIMAN