شهدت وسائل التواصل الاجتماعي خلال السنوات الأخيرة طفرة كبيرة في عدد ما يُعرف بـ«المؤثرين»، إلى جانب انتشار كلمات مثل «إنفلونسر»، «بلوغر»، «فلوغر» وغيرها، والتي أصبحت جزءاً من قاموس الإعلام الرقمي. هذه الظاهرة أثارت نقاشات واسعة حول طبيعة التأثير ومعناه الحقيقي في عصرنا الحالي. في عالم تُقاس فيه الشهرة بعدد الإعجابات والمتابعين، برزت فئة تقدم محتوى سطحياً أو حتى تافهاً، ومع ذلك تُلقب بـ«المؤثرين». لكن يبقى السؤال: هل يمكن اعتبار هؤلاء فعلاً مؤثرين؟ التأثير الحقيقي: قيم أم أرقام؟ في جوهره، يعني التأثير القدرة على إحداث تغيير إيجابي في فكر أو سلوك الآخرين. ومع ذلك، أصبح التأثير اليوم مرهوناً بجذب الانتباه عبر عروض سطحية تهدف فقط لزيادة أعداد المتابعين. تجد بعض المؤثرين يروّجون منتجات مثل مستحضرات التجميل أو أدوات العناية الشخصية بأساليب غير لائقة تخدش الحياء العام، أو يعتمدون بالكامل على مظهرهم الخارجي دون تقديم محتوى ذو قيمة. البعض الآخر يستغل أساليب الترف أو الإيحاءات المبتذلة لجذب الانتباه، بينما يختار آخرون التصرفات المضحكة أو الصادمة أو حتى التهريج كوسيلة لكسب الشهرة. هذه الفئة، التي يصفها البعض بـ«صُنّاع التفاهة»، أظهرت كيف أن الشهرة أصبحت تُبنى على أسس هشة وغير مستدامة. المحتوى الدعائي تحت ستار التأثير من بين الظواهر المثيرة للقلق هي تلك الفئة من المؤثرين الذين يدّعون تقييم المنتجات أو المطاعم، في حين أن آرائهم مدفوعة الأجر من الشركات، مما يجعلهم أشبه بـ«إعلانات متحركة». الأكثر خطورة هو الترويج لمنتجات قد تكون مضرة أو غير مناسبة لجميع الفئات العمرية، دون أدنى مسؤولية. وفي حالات أخرى، يستغل البعض الأزمات الإنسانية، مثل معاناة اللاجئين أو المتضررين من الكوارث، للحصول على مشاهدات ومتابعات تحت ستار تقديم المساعدة، بينما الهدف الحقيقي هو تعزيز شهرتهم الشخصية. التأثير السلبي على الأجيال الناشئة ما يثير القلق هو الأثر السلبي لهذه الظاهرة على الأطفال والمراهقين. إذ ينشأ الجيل الجديد على فكرة أن النجاح يتمثل في حصد ملايين المتابعين، بغض النظر عن قيمة المحتوى. هذا يؤدي إلى تغييب الأولويات وتشويه القيم، حيث يُفضل الشباب تقليد هؤلاء المؤثرين عوضاً عن تطوير مهاراتهم أو البحث عن أهداف ذات معنى. دور الإعلام في تعزيز التفاهة الإعلام التقليدي والمنصات الرقمية تتحمل مسؤولية كبيرة في تعزيز هذه الظاهرة. فبعض القنوات التلفزيونية تمنح هؤلاء المؤثرين برامج خاصة أو تستضيفهم كضيوف، مما يمنحهم مصداقية لا يستحقونها. حتى الشركات الكبرى والحكومات تغض الطرف عن محتواهم وتركز فقط على أعداد متابعيهم، حيث تُمنح بعض المؤثرات إقامات ذهبية وفرص عمل فقط بسبب شهرتهن، دون النظر إلى جودة ما يقدمنه. أمثلة إيجابية على التأثير الحقيقي رغم كل ما سبق، هناك جانب مشرق في عالم التأثير. فبعض المؤثرين يقدمون محتوى مفيداً يثري المجتمع، مثل تبسيط العلوم، تعليم المهارات العملية، تقديم نصائح تقنية، أو مشاركة تجارب السفر بشكل تعليمي وإرشادي. هؤلاء يستحقون التقدير لأنهم يساهمون في رفع مستوى الوعي وتعزيز الثقافة. لماذا ينجذب المجتمع للتفاهة؟ السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا ينجذب الناس، وحتى الشركات، إلى هذا النوع من المحتوى السطحي؟ربما يعود السبب إلى رغبة الجمهور في الهروب من ضغوط الحياة اليومية إلى محتوى خفيف ومسلٍ. أو ربما يكون الانبهار بأرقام المشاهدات هو الدافع وراء تجاهل جودة المحتوى. المنصات الرقمية مثل تيك توك وإنستغرام وغيرهم يتحملون جزءاً كبيراً من المسؤولية، حيث تسمح بترويج محتوى غير أخلاقي أو سطحي لجذب الإعلانات وزيادة الأرباح. لحل هذه الظاهرة، يجب على المجتمع تعزيز ثقافة النقد البناء وتشجيع متابعة صُنّاع المحتوى الهادف. كما يجب على المنصات الرقمية فرض رقابة صارمة على نوعية المحتوى المتداول. الخلاصة علينا إعادة النظر في مفهوم التأثير ومعايير اختيار المؤثرين. المسؤولية الاجتماعية تتطلب أن يكون التأثير مرتبطاً بتقديم قيمة حقيقية تُسهم في بناء مجتمع واعٍ ومثقف، وليس مجرد أرقام فارغة على الشاشة. دعم صُنّاع المحتوى المفيد هو الطريق لبناء مستقبل أفضل للأجيال القادمة، بعيداً عن ثقافة التفاهة التي تهدد القيم والمبادئ.