مقال رأي: محمد سليمان / لاجئ في السويد لا زلت أذكر ذلك اليوم الذي وطأت في أقدامي وأقدام أسرتي هذه الأرض، وذلك الفندق الصغير في مدينة مالمو الذي كان منطلقاً لعشرات الآلاف من اللاجئين في رحلة حياتهم الجديدة بالسويد، لم نلبث أياماً بعدها حتى أنتقلنا لفندق لجوء أخر جديد يبعد عدة أمتار فقط من البحر في واحدة من أجمل المدن السياحية في السويد. كان الأمر فعلاً وكأنه حلم، وبالنظر لرحلة العذاب التي قمت بخوضها مع عائلتي للوصول إلى السويد بعد أسبوعين كاملين من الإبحار دون مؤون قادمين من الاسكندرية، نعم كانت حياتنا هناك أشبه بجنّة النعيم التي لطالما سمعنا عنها ولم نرها.لم يكن جمال الموقع والمكان هناك كل ما في الجنة، فكرم الضيافة وحسن التعامل من العاملين وأصحاب الفندق معنا كان جديراً بالتقدير، وجميع وجبات الطعام التي كانت تعد لنا من قبل فريق خاص من الطهاة المهرة كانت لا تقارن. ترحاب سكان المنطقة بنا، والذين كان يحجون لفندقنا يومياً، محملين بأكياس من الملابس والهدايا والألعاب جعلنا عاجزين تماماً عن الشكر. ورغم معرفتي بأن كثير من اللاجئين في تلك الفترة لم يحالفه الحظ لنيل مثل ذاك الترحاب الذي حظينا به نحن في البداية، إلا أن ذلك الكم الهائل من الجمال والهدوء والإكرام والمحبة الذي أبهر جميع اللاجئين معنا في ذلك الفندق، استحق الذكر كمقدمة في هذا المقال، وذلك ببساطة.. لأنه لم يدم طويلاً! فكما اعترضت ملائكة الرحمن أن جعل الله بشراً في الأرض، يفسد ويسفك الدماء، كذلك اعترض بعض السويديين في المنطقة على وجودنا بعد حين، وللأسف لم يكن اعتراضهم حينها بدوافع عنصرية أو من فراغ. فما هي إلا أشهر معدودات -من وصولنا جميعاً كأول دفعة لاجئين في الكامب- حتى تجرأ بعض منا على كسر قفل باب الإدارة والنوافذ مراراً وتكراراً بغرض سرقة بعض الطعام، وليس من شدة الجوع بالطبع فالطعام هناك كان لا ينضب، ويقدم لثلاث وجبات ببوفيه مفتوح يومياً، وكان ما يرمى منه فقط يكفي لإطعام العشرات، إنما كانت السرقة للأسف بغرض البيع والتجارة خارج الكامب. وبعد أن تم تحصين الأبواب والنوافذ بالأخشاب ثم بالحديد، انتقلت السرقات لخارج الكامب، فالدراجات والممتلكات الخاصة بدأت تُسرق شيئاً فشيئاً من كل مكان في المدينة، حتى اللاجئين أنفسهم لم يسلموا من هذه السرقات، وهنا بدأت الصحف بالكتابة عنا، وبدأت رقعة الفساد تتسع! توالت بعدها الأحداث وللأسف لم يقتصر الأمر على السرقة، فعصابة المجرمين تلك حديثة التشكيل والولادة، وفي ظل سكوت الأخرين عنها -خوفاً أو تجنباً للمشاكل- كان لا بد من أن تكبر وتتسع أعمالها وتعلن صراحة عن نفسها أمام الأخرين من سكان الكامب. نحن العصابة هنا وسنفعل كل ما يحلوا لنا، حتى أننا سنوقظكم فزعين يومياً أنتم وأطفالكم وجميع السكان المحيطين بالفندق وسنجلب خدمات الإسعاف والحرائق، في منتصف الليل ومرة تلو أخرى، بواسطة العبث بجهاز انذار الحرائق، وليس ذلك بسبب أجهزة استشعار التدخين التي قاموا بالطبع بتعطيلها منذ اليوم الأول في جميع غرفهم، بل عبر الضغط عامدين متعمدين على مفاتيح إنذار الحرائق، وهنا بالطبع كان لا بد أن تستمر الصحف في الكتابة، ومساحة الخوف والقلق أيضاً تتسع وتتسع!ولاختصار ما تبقى وعدم الإطالة، توالت المشاكل هناك، فمعارك في السكاكين وبغيرها، وتحرشات ومحاولة اغتصاب، ناهيك عن تجارة الممنوعات، وبالتالي اختفت تدريجياً أثار كل تلك الأقدام الغريبة الخيرة عن الفندق، حتى أن البيوت القريبة منه تأذت في أسعارها بسبب كل تلك المشاكل المتكررة.ما هي إلا أشهر حتى تحولت جنة الأرض تلك التي حظينا بها هناك لجحيم لا يطاق، مما جعل معظم سكان الكامب يهرعون لدائرة الهجرة راجين خروجهم من ذلك الفندق لأي مكان أخر قد يصلح للسكن! ولاحقاً توقفت جميع تلك المشاكل هناك عندما عينت البلدية حراساً مسلحين خاصين مقيمين في الكامب لغرض فرض الهدوء والأمان هناك فرضاً على الساكنين. غير أن تلك الجنة التي كانت قد تدمرت عبثياً بأيدي سكانها أصبح من الصعب بمكان أعادة بناؤها من جديد، فكيف عساك تستطيع أن تقنع أولئك السكان الذين قاموا بتقديم كل شيء لك، أن كل شيء لم يكن كافياً للبعض منا، ليحثهم قليلاً على تعديل السلوك، أو إظهار شيئاً بسيطاً من الانضباط، للبدء بحياة جديدة كلياً. قد تكون هذه مجرد قصة قصيرة من الواقع، ولربما سمع وعايش معظمنا قصص أخرى مشابهة لها، ورغم أن البعض سيظن أني قد بالغت ها هنا بسرد أحداثها، إلا أنها حدثت وتكررت كثيراً، مع اختلاف تفاصيلها وشخصياتها في العديد من الكامبات ونزل اللجوء في السويد وفي بلدان أخرى.بالنسبة للبعض منا لربما تكون سرقة دراجة ما هنا أو هناك مجرد فعل عابث من شباب طائش، لا يستحق الوقوف عنده بهذا الاهتمام، إلا أن فعلاً طائشاً كهذا بالنسبة لمجتمع أعتاد طيلة مئتي عام كالسويد- على العيش بسلام وأمان، يعتبر انتهاكاً صارخاً لكل ما اعتادوا عليه في حياتهم، كمان أن السكوت عن أفعال صغيرة كهذه هو الذي أدى إلى نشوء أحياء سكنية كاملة في أوروبا تدار اليوم من قبل العصابات والمجرمين، الذي يعرف معظمنا حقيقة أن معظمهم كانوا قد جاؤوا كلاجئين ومهاجرين لهذه البلاد.في النهاية إن مجرد التفكير بأن أولئك المعنيين في تلك القصة، وعشرات بل مئات أشباهها من القصص- سواء كانوا من الفاعلين أو الصامتين فيها على تلك الأفعال- هم الآن متفرقين في كل أنحاء البلاد يستمروا بأداء أفعالهم ذاتها أو بالتزام صمتهم ذاته على أفعال الأخرين، قد يبرر لنا بشكل جلي وواضح لماذا انقلب المزاج العام في السويد وفي أوروبا عموماً بكل هذه القسوة ضد اللاجئين، ولماذا معظم الأحزاب اليوم بما فيها تلك التي كانت تعد المدافع الأول عن اللاجئين، وتتبنى سياسة الأبواب المفتوحة معهم، تقف هي ذاتها اليوم، وتقول: لا، لن نكرر ما حدث في 2015.يمكننا بسهولة اختلاق ما لا يحصى من الإجابات التي قد تُبعد أفعالنا عن دائرة المسؤولية لمواساة أنفسنا، واستمرار تهربنا المتقن من محاسبة الذات، بيد أن الصعود المستمر لليمين المتطرف في كل أنحاء أوروبا، وسيطرته المتزايدة على الرأي العام يضعنا جميعاً أمام الحقيقة التي لا مفر منها والتي لا بد أن ندركها جميعاً عاجلاً أم أجلاً.ما زرعناه نحن اللاجئين هنا في أوروبا بالأمس، يحصده اليوم ويجني ثماره مئات الآلاف من الأطفال والنساء والشيوخ والرجال الفارين بأرواحهم من الحروب، سواء العالقين منهم اليوم بلا مأوى بين السياجين الحدوديين التركي واليوناني، أو غيرهم من الحالمين بالوصول لبر الأمان الذي سبقناهم نحن إليه.