مجتمع

محمد كريم: رحلة وصولنا إلى أوروبا أغرب من ألف ليلة وليلة

Aa

محمد كريم: رحلة وصولنا إلى أوروبا أغرب من ألف ليلة وليلة

محمد كريم: رحلة وصولنا إلى أوروبا أغرب من ألف ليلة وليلة

معظم من جاء من أوروبا اضطرّ لقطع بحر أو عبور غابة أو التعرّض لمخاطر أخرى، ولهذا فجميع هؤلاء يدركون خطورة تحقيق حلم الوصول إلى أوروبا. لكن قلّة منّا شهد رحلة طويلة ومنهكة كالتي شهدها محمد كريم وزوجته للوصول إلى السويد. 

محمد كريم وزوجته سوريان الأصل غادرا من السعودية إلى تركيا بقصد الوصول إلى أوروبا في 2019. لكنهما خشيا من السفر بالطرق الأكثر تقليدية عبر البحر أو الغابات واعتبرا في الأمر مخاطرة يمكنهما تجنبها، ولهذا قررا شراء جوازات سفر مزورة للسفر إلى بلجيكا، وكان عليهما أن يعبرا عدد من الدول الإفريقية قبل التوجه إلى أوروبا.

انطلقا بشكل نظامي من تركيا إلى المغرب، ثمّ إلى السنغال حيث عانيا من بعض المشاكل هناك، ولكن تمكنا من مغادرة السنغال من العاصمة دكار وانطلقا نحو دولة إفريقيّة صغيرة تدعى (الرأس الأخضر).

كان المهرّب قد أخبر الزوجين بأنّهما لن يعانيا مشكلة عند الوصول إلى المطار حيث أنّ ازدحامات رأس السنة ستتكفل بالأمر. فعلاً وصل محمد وزوجته إلى المطار في الرأس الأخضر في 6 كانون الثاني/يناير 2020. بقيا هناك 3 أيام، تنقلا كما هو مخطط من جزيرة إلى أخرى. وبعد ذلك جاء وقت رحلتهما إلى بلجيكا، فعادا إلى المطار في العاصمة برايا للتجهز للسفر، ومضيا إلى المطار في موعد الرحلة، وصعدا إلى الطائرة وأغلقت أبواب الطائرة وأمسك الزوجان بيد بعضهما البعض بانتظار الوصول إلى بلجيكا والبدء بحياتهما الجديدة.

لكن لم تقلع الطائرة! وأعلن الكابتن عن تأخر في الإقلاع. بدأ الخوف يتسلل إلى قلب محمد، ثمّ تعزز خوفه عندما شاهد سيارات الشرطة بصفاراتها تتجه نحو الطائرة. صعدت الشرطة نحو الطائرة، وجاء الكابتن إلى محمد وزوجها وأمرهما بالنزول من الطائرة.

هل يوجد نسخة واقع مطابقة للحلم؟

عالقان في الرأس الأخضر

بدأت الشرطة باستجواب الزوجين وتفتيش أغراضهما. كان التفاهم صعباً، فمحمد يتحدث العربية والإنكليزية مع أشخاص لا يتحدثون إلا البرتغالية تبعاً لكون الجزيرة كانت مستعمرة برتغالية. أجابهما محمد بأنّه وزوجته سائحان بلجيكيان. ولكن أثناء التفتيش في الحقائب وجدت الشرطة جوازات السفر السورية. انهار محمد وزوجته بالبكاء، وقامت الشرطة برميهما في سيارة الاحتجاز وأخذهما إلى الحبس.

وضع الزوجان في غرفتي حبس تفصل بينهما 10 أمتار، مساحة كلّ منهما متران. يتحدث محمد بأنّ الغرفتين كانتا قذرتين بشكل لا يوصف، وليس فيهما أيّ أثاث. بقي الزوجان يومان دون طعام أو شراب غير الماء، وجائهما في هذا الوقت شرطي قائلاً: "أعطوني مالاً لأجلب لكما ما تأكلانه"، وهو ما لم يملكاه في تلك اللحظة. وصل الأمر بمحمد لرطم رأسه بالجدار عدّة مرات ليستفيق من حلمه الذي أكد له الدم على رأسه بأنّه واقع. لكن في اليوم الثالث جاء إليهما شرطي آخر وجلب لهما بعض البسكويت كي يأكلاه.

تمّ عرضهما على القاضي في اليوم الرابع، وكان جو المحكمة متوتراً كما وصفه محمد، حيث أنّ المدعي العام والقاضي ينظران إليهما نظرات قاسية. شرح المحامي لمحمد وزوجته بأنّ جريمتهما قد تؤدي لحبسهما 3 أعوام، فانهارا بالبكاء. كان رجل إيطالي يدعى لوكا هو من يترجم كلام المحامي والمحكمة لمحمد بالإنكليزية، ولم يكن مسموحاً لمحمد بالترجمة لزوجته، ولهذا بحثوا في الجزيرة عمّن يتحدث العربية، ووجدوا شخصاً تونسياً يدعى رضوان.

في المحكمة وأثناء سير المحاكمة، قرر المترجم لوكا أن يتدخل. بدأ يشرح للقاضي والمدعي العام وغيره عن الوضع في سورية، وهي الدولة التي لم يكونا يعرفانها، وعن كيف يقوم الناس بالهرب منها إلى أوروبا والحرب الدائرة فيها. بعد أن شرح لوكا الأوضاع، ظهر بأنّ سحنة القاضي قد تغيرت، فكما شرح محمد: يبدو أنّه كان ينظر إلينا كإرهابيين، ثمّ تغيرت نظرته.

كان محمد محقاً في تخمينه، فقد قال القاضي لهما بعد شرح لوكا: "لديّ سلطتان: سلطة قضائية وأخرى إنسانية، واليوم قررت أن استخدم سلطتي الإنسانية وأخلي سبيلكما لتعيشا في الجزيرة حتّى يحين وقت المحاكمة الثانية.

تلقى محمد وزوجته الخبر بشكل مفرح، فحتى لو كانا محبوسين في الجزيرة ويمنع عليهما مغادرتها، إلّا أنّهما ليسا محبوسين في زنزانة كالمجرمين... ليبدأ بعد ذلك فصل جديد في قصة محمد وزوجته.

الرأس الأخضر

الإغلاق

تمّ إطلاق سراح محمد وزوجته، واستقبلهما التونسي في منزله لتلك الليلة. في اليوم تالي بحثا عن منزل ليسكنا به، ولم يحظيا مقابل المال الذي كان في حوزتهما إلّا بغرفة فقيرة الأثاث.

بدأت بعد ذلك رحلة التقشف التي كان على الزوجين الخوض فيها مجبرين، فأصبحا يستهلكان أكل شخص واحد، ويتقشفان في الاحتياجات خوفاً من نفاذ ما يدخرانه، وكذلك خوفاً من الاضطرار للجوء بشكل متزايد لأهله وأصدقائه في الخارج. كان أهل محمد يعلمون بما حدث، بينما كان أهل زوجته يعتقدون بأنّهما لا يزالان في تركيا.

ثمّ في شهر 7 من عام 2020، بدأ الإغلاق في الجزيرة وبدأ الجميع بمغادرتها. نصح الجميع محمد بمحاولة إيجاد طريقة للهرب من الجزيرة، وذلك خوفاً من أن تتعرض حياتهما للسوء أكثر، أو يكونا ضحية لجريمة سرقة أو قتل أو أي شيء.

يقول محمد: لم يكن لديّ خيار ولا وسيلة، وكنت مجبراً على البقاء بانتظار المحاكمة. يضيف: لم نتعرض لا أنا ولا زوجتي لأيّ اعتداء بدني أو نفسي من الشرطة، ولكن لم يمضِ يوم إلّا ونحن خائفان من أن تدقّ الشرطة بابننا لاعتقالنا، أو أن يتغيّر القاضي ويقرر بأننا مجرمان يجب حبسنا.

بين اليأس والأمل شعرة… أو رحلة طائرة في حالة محمد وزوجته

نفاذ المال

بعد مضيّ فترة من الزمن وفي نهاية عام 2020، كان على محمد أن يتعامل مع حقيقة أنّ الأموال التي يدخرها مع زوجته بدأت تنفذ. يقول: كان أهلي يحاولون مساعدتي، ولكن كيف لي أن أخذ مالاً لا أعرف متى سأردّه؟ ولهذا قررتُ محاولة إيجاد عمل.

ذهب محمد إلى ليوناردو، وهو البرتغالي الذي تعامل مع محمد بكثير من الود، والذي يقول عنه محمد: "لولاه لبقينا بالشارع"، وكان محمد قد استأجر لديه منزلاً أفضل من الغرفة الأولى. أخبره محمد بأنّ ماله بدأ بالنفاذ ولهذا هو بحاجة لعمل.

كان محمد خريج أدب إنكليزي وكانت زوجته خريجة رياضيات. عمل محمد في السعودية لمدّة 10 أعوام كمندوب لشركة أثاث، ثمّ لعامين كمدير صالة في شركة دنماركية. لكنّ خبرته هذه لم تكن لتنفعه في حالته. لهذا عندما طلب من ليوناردو أن يجد له عملاً، كان واضحاً بأنّه مستعد لأيّ عمل.

كان ليوناردو يملك مجموعة من المنازل التي يؤجرها، ولهذا أعطى محمد مهمة تنظيف هذه المنازل بعد خروج المستأجرين. ثمّ بدأ محمد وزوجته يقدمان خدمات غسيل الثياب (دون غسالة) وكيّها. ثمّ بعد فترة بدأت إحدى الصديقات التي عرفهما عليها ليوناردو والتي تملك مطعماً بعرض بيع طعامهما في مطعمها دون أن تأخذ نسبة منها، فأطلقا عمل بيع الطعام البسيط بالمكونات البسيطة التي لديهما.

يقول محمد وهو يتذكر الحسرة: "لم يكن هذا ممّا اعتدنا على العمل به، ولكن لم يكن لدينا خيار آخر ولهذا قبلنا وبدأنا نكسب المال الذي كان يذهب بأكمله لدفع الإيجار وشراء الحاجات الرئيسية... لم نكن نستطيع الادخار ولم نستطع التقدّم اجتماعياً، ولكن على الأقل تمكنا من ستر أنفسنا دون الحاجة للتثقل على أحد... كانت زوجتي تدخل حالات اكتئاب في بعض الأحيان فتبقى عدّة أسابيع ترفض مغادرة المنزل، لكنّها كانت مثلي تتفهم أنّ هذا هو السبيل الوحيد كي نعيش".

ما الذي ستفعله لو كنت محل محمد كريم وزوجته؟

أملٌ جديد

كان محمد قد بدأ منذ فترة بالتواصل مع الأمم المتحدة لتسجيل اسمه واسم زوجته كلاجئين محتملين. يقول: "لم يكن هناك مبنى لمفوضية اللاجئين في الرأس الأخضر، وكان أقرب مكان لتواجدهم في السنغال. تراسلت معهم وتحدثوا إليّ وإلى زوجتي مطولاً عدّة مرات لكن لم يبدُ أنّ هناك ما يلوح في الأفق".

ثم بدأت الحقبة التي يقول عنها محمد: "اجا الخير كلو مع بعض". فعندما بدأت تفتح البلاد وتخرج من الإغلاق في شهر 4 من عام 2021، بدأ شقيقه في ألمانيا، وشقيق زوجته، وأصدقائه، يرسلون لهم هدايا وأغراض كانوا قد حرموا منها منذ فترة طويلة.

في الفترة ذاتها تواصل مع محمد شخص من الأمم المتحدة في السنغال وأخبره بأنّه استلم ملفهما مؤخراً أجرا معهما مقابلة طويلة من جديد ووعدهما خيراً.

ثمّ بعد عدّة أشهر من الأخذ والرد، اتصل موظف الأمم المتحدة بمحمد في شهر 7 من عام 2021 وقال: "مبروك، السويد قبلت أن تأخذكما كلاجئين".

يروي محمد بأنّه كان مصدوماً لدرجة لم يعرف فيها ما الذي عليه فعله. يقول: "مشيت تجاه مكان العمل وأنا أحمل عدّة التنظيف، ثمّ فجأة جلست على الرصيف وبدأت بالبكاء. كان جميع المارة يحدقون بي، وقد بقيت جالساً حوالي الربع ساعة أبكي حتّى تمكنت من لملمة نفسي والإكمال تجاه العمل".

استغرقت الإجراءات حوالي 3 أشهر استمرّ فيها محمد وزوجته بالعمل في الرأس الأخضر، ثمّ في 13 أكتوبر/تشرين الأول 2021 انطلقا بالطيارة إلى يوتوبوري في السويد، ليكونا أوّل لاجئين يخرجان من دولة الرأس الأخضر بترتيبات من مفوضية اللاجئين.

تصبح السويد بالنسبة للبعض جنة

بداية حقيقية

سألنا محمد: "يفترض بأنّك تشعر اليوم في السويد وكأنك في الجنّة، أليس كذلك؟". أجاب: "أنا أشعر اليوم بأنّي في ألف نعمة، وإن لم أشعر بمثل هذا الشعور سأكون جاحداً بحقّ ربّ العالمين الذي أنقذني من الوضع المزري الذي كنت أعيش فيه، وبحقّ السويد التي أنقذتني حياتي".

بدأ محمد اليوم بالسعي لإتمام دراسته في الجامعة، وهو كما يقول: "أحاول إيجاد أقصر طريق إلى سوق العمل" لأثبت كفاءتي وأبدأ الحياة التي لطالما حلمت وزوجتي بها.

نهاية فصل وبداية فصل جديد…

ما العبرة؟

سألنا محمد: ما هي العبرة التي خرجت بها من رحلتك الطويلة؟ فأجاب: عبرتان: "لا تحتفل قبل أن تفوز مهما كنت قريباً، وعليك أن تعلم القاعدة الأكثر أهمية: لا شيء يدوم".

قلنا لمحمد: "اليوم وقد وصلت إلى أوروبا كما تحلم، إن علمت أنّ هذه ستكون النتيجة الحتمية لمغامرتك، فهل ستعيد التجربة قبل خروجك من السعودية أو من تركيا؟"

كان محمد قد فكر مسبقاً بالإجابة ولهذا كانت سهلة عليه: "لا لن أعيدها". استمرّ بالشرح: "لا أحد يمكنه أن يدرك مدى الخوف الذي اضطررنا لنعيشه، سواء عندما كنا نحمل جوازات سفر مزورة في المطارات، أو ما حصل معنا في الرأس الأخضر".

لا يمكننا أن نظهر مقدار الألم مشاعر الإحباط والفرح الذي يعيشها الإنسان في هكذا رحلة، ولكن يمكننا أن نتمنى لمحمد أن يدوم شعوره بالنعمة بعد وصوله إلى السويد وفراغه من رحلة "الألف ليلة وليلة"...

أخبار ذات صلة
المزيد من أخبار - مجتمع

أكتر هي واحدة من أكبر منصّات الأخبار السويدية باللغة العربية وأسرعها نمواً.

توفّر المنصة الأخبار الموثوقة والدقيقة، وتقدّم المحتوى الأفضل عبر النصوص والأفلام الموجّهة لعددٍ متزايد من الناطقين باللغة العربية في السويد وأجزاء من الدول الاسكندنافية وبقية العالم.

تواصل معنا

Kaptensgatan 24, 211/51 Malmö, Sweden
VD -  Kotada@aktarr.se

Tipsa -  Press@aktarr.se

Annonsera -  Annonsering@aktarr.se

للاشتراك بالنشرة الاخبارية

متابعة أخر الاخبار و المواضيع التي تهمك

2023 Aktarr جميع الحقوق محفوظة لمنصة ©