مع حلول فصل الربيع، تنطلق الاحتفالات في مناطق واسعة من العالم، إيذانًا ببداية عام جديد وفقًا لتقاليد قديمة تمتد لآلاف السنين. إنه عيد نوروز، الذي يعني «اليوم الجديد» بالفارسية، ويُعتبر مناسبةً تحتفل بها شعوب مختلفة، بدءًا من إيران وأفغانستان وحتى كردستان وتركيا وأجزاء من آسيا الوسطى. لكن نوروز ليس مجرد احتفال عابر؛ إنه تقليدٌ متجذر في الثقافات، حاملاً في طياته أساطير وتفسيرات متعددة، أحيانًا متشابكة، تجعله واحدًا من أكثر الأعياد إثارةً للاهتمام. جذور تاريخية متداخلة تتعدد الروايات حول أصل عيد نوروز، فمنها ما يعود إلى الإمبراطورية الفارسية القديمة، حيث يُقال إن الملك جمشيد، أحد أعظم ملوك الفرس، أشرقت عليه الشمس وهو جالس على عرشه في أذربيجان، فابتهج الناس واعتبروا ذلك اليوم بدايةً جديدة. ومنذ ذلك الحين، أصبح نوروز رمزًا للتجدد والانبعاث. أما في التقويم المصري القديم، فهناك تشابهٌ في الاسم مع عيد «النوروز»، الذي كان يوافق بداية السنة القبطية وشهد بداية موسم فيضان نهر النيل، شريان الحياة لمصر القديمة. ومن هنا، يرى بعض الباحثين أن التسمية قد تكون ذات جذور مصرية قبطية، حيث تعني «نوروز» في اللغة القبطية «الأنهار». لاحقًا، ومع دخول اليونانيين إلى مصر، أضافوا حرف السين إلى الكلمة فأصبحت «نيروس»، وهو ما جعل بعض العرب يخلطون بينها وبين «نوروز» الفارسي. أما في التقليد الفارسي، فيرتبط العيد بمعتقدات قديمة عن الاعتدال الربيعي، حيث تحتفل به إيران والدول المجاورة لها باعتباره عيدًا قوميًا، يرمز إلى التجدد والطبيعة والانبعاث من جديد. الاحتفالات في السويد في السويد، يزداد الاحتفال بعيد النوروز، أو رأس السنة الفارسية، انتشارًا عامًا بعد عام. يُقام في ستوكهولم، تحديدًا في حديقة كونغسترادغوردن، ما يُعتبر أحد أكبر احتفالات النوروز في العالم، حيث تُشعل النيران ويقفز المحتفلون فوقها مرددين عبارات تقليدية. يستمر الاحتفال لمدة أسبوعين، ويشمل إعداد مائدة "هفت سين" التي تضم سبعة عناصر تبدأ بحرف السين، مثل التفاح والثوم والسماق، ولكل عنصر رمزيته الخاصة. بالإضافة إلى ذلك، يُعتبر النوروز مثالًا على كيفية انتقال الأعياد وتكيفها مع الثقافات المختلفة، حيث يُمثل للكثيرين في السويد وسيلة للتعبير عن خلفياتهم الثقافية ودمجها في المجتمع السويدي. نوروز.. بين الأسطورة والواقع استمر الاحتفال بعيد نوروز على مرّ العصور، رغم التغيرات السياسية والثقافية والدينية. فعلى الرغم من أن الفتح الإسلامي لبلاد فارس غيّر العديد من العادات، إلا أن نوروز ظلّ حاضرًا، وإن بأشكال مختلفة. فبينما لم يكن يحظى بالكثير من الاهتمام في العصور الإسلامية المبكرة، بدأ بعض الخلفاء الأمويين والعباسيين بالاحتفاء به عبر تقديم الهدايا للفرس في هذه المناسبة. وفي العصر الحديث، أصبح نوروز جزءًا من التراث الثقافي العالمي، حيث أدرجته منظمة اليونسكو عام 2010 ضمن قائمة التراث الثقافي غير المادي، كما أعلنت الأمم المتحدة يوم 21 مارس يومًا عالميًا لنوروز، احتفاءً بما يمثله العيد من قيم التعددية الثقافية والسلام. طقوسٌ تمتد عبر الزمن يُحتفل بعيد نوروز بعددٍ من الطقوس الفريدة التي تختلف من بلدٍ لآخر، لكن أبرزها هو «هفت سين»، أي «السفره ذات السينات السبع»، وهي مائدة تحتوي على سبعة عناصر تبدأ بحرف السين، مثل التفاح (سيب)، الثوم (سير)، السماق (سماق)، وغيرها، ولكل عنصرٍ دلالته الرمزية المتعلقة بالحياة والصحة والخصوبة. ومن أبرز معالم الاحتفال أيضًا ظهور شخصية الحاج فيروز، الذي يرتدي لباسًا أحمر اللون ويصبغ وجهه باللون الأسود، ويتجول في الشوارع مرددًا الأغاني الشعبية لإضفاء أجواء الفرح. وفي بعض المناطق، يمتد الاحتفال لنحو أسبوعين، حيث تُقام التجمعات العائلية وتُوزع الهدايا، بينما تُعطل المؤسسات الحكومية والمدارس في بعض الدول التي تعترف به كعطلة رسمية، مثل إيران والعراق وأذربيجان وقرغيزستان. ورغم الانتشار الواسع للاحتفالات بنوروز، فإنه لا يزال موضع جدلٍ في بعض المجتمعات، خصوصًا من الناحية الدينية. إذ يرى البعض أن العيد له أصول مجوسية قديمة، في حين يعتبره آخرون مناسبةً ثقافية لا تتعارض مع المعتقدات الدينية. لكن بغض النظر عن المواقف المتباينة، يبقى نوروز تقليدًا متجذرًا في وجدان الملايين، وجسرًا يربط الماضي بالحاضر، والتقاليد بالهوية، والإنسان بالطبيعة. وهكذا، مع حلول كل ربيع، تعود مظاهر البهجة لتُعيد إحياء عيدٍ تتعدد حوله الروايات، لكنه يظل واحدًا من أكثر الأعياد انتشارًا في العالم، بثرائه الثقافي وتاريخه العريق.