الحقيقة التي نراها اليوم هي أنّ المشهد الإعلامي السويدي لا يعدو أن يكون نموذجاً مصغراً عن المشهد الإعلامي العالمي: المنصّات الإعلامية التي تتبنّى المعلومات الدقيقة التي يتمّ تمحيصها وفحصها بشكل منهجي قبل النشر، تقف في مواجهة المنصّات الإعلامية التي تبني شهرتها على التزييف الإعلامي، وإثارة كلّ ما يناقض الأمانة العلمية والدقّة في النقل. لهذا وضمن هذا المقال البحثي، من المفيد أن نتطرّق نحن في منصّة "أكتر" إلى جمهورنا الذي يبحث عن الحقيقة ويكره الزيف، لنعطي لمحة عمّا واجهه الإعلام السويدي، والاسكندنافي عموماً في السنوات الماضية، والذي يمتدّ حتى اليوم لنعاني منه بشكل يومي.ماهي الأخبار المزيفة؟إنّ ما يسمّى بالأخبار المزيفة، أو المضللة، ليست بالجديدة، ولكن الصيحة اجتاحت العالم منذ سنوات ليست بالبعيدة، والتي باتت تسمّى بالإنكليزية: "Fake News". إذا ما أردنا أن نفهم ماذا تعني الأخبار المزيفة، ففي بحث ليوهان فاركاس Johan Farkas، فهي الأخبار التي يتمّ تعبئتها، أو استخدامها، كجزء من المجهود السياسي بهدف الهيمنة على الواقع الاجتماعي.يمكننا كمثال صارخ أن نتذكر قيام أحد السياسيين السويديين في إحدى البلديات بنشر معلومات زائفة مدعياً أنّها برنامج حزب المحافظين، والتي تهدف لتخويف المسلمين في السويد وإثارة حفيظتهم ضدّ الحزب.يمكننا إذاً أن نعرّف الأخبار الزائفة، ضمن سياق حديثنا، وفقاً لتعريف "اللجنة عالية المستوى من الخبراء Helg" الأوروبية، والتي قالت بأنّها: "معلومات زائفة، أو غير دقيقة، أو مضللة، مُصمّمة ومقدّمة ومعززة، من أجل إحداث الضرر المتعمد ف العامة، أو من أجل جني الأرباح".الاستخدام السياسي للمعلومات الزائفةالسياسيون في الكثير من البلدان، ومن ضمنها السويد، يستخدمون مصطلح "المعلومات الزائفة أو المضللة" من أجل استهداف خصومهم السياسيين. بل إنّ بعض السياسيين في دول يفترض بأنّها ديمقراطية، يحاولون استغلال الفرصة لتقويض سلطة الإعلام أو السيطرة عليه بشكل كلي. يبدو ذلك واضحاً بأبهى صوره في تقرير رويترز الرقمي، الذي يتحدث عن السياسات الإعلامية ومحاولة السياسيين الاستفادة من الأمر.يصبح الأمر أكثر خطورة عندما نذهب إلى الإعلام الرقمي، ويصبح تفاقم المشكلة في العالم، وفي بلدان الشمال، أمراً لا حدود لخطره، وذلك وفقاً للبحث الصادر عن جامعة بيرغن حول هذا الموضوع. لكن رغم أنّ مسالة الأخبار الزائفة لها بعدٌ عالمي، فهي تحمل في الحقيقة بعداً خاصاً عندما نتحدث عن المشهد السويدي والاسكندنافي، حيث أنّ الإعلام في هذه المجتمعات قد أسس على مدى السنين نوعاً من الثقة في التلقي، ومسألة المعلومات الزائفة تشوش هذه الثقة بشكل صارخ.يوضّح فان أيلست ورفاقه في بحثهم بعنوان: "بين الثقة والشك Between Trust and Suspicion"، فيقول بأنّ العلاقة بين السياسيين والصحفيين هي علاقة اعتماد متبادل، حيث يشبّهها برقصة التانغو التي تحتاج إلى شخصين، السياسي الذي يعدّ مصدر المعلومة، والصحفي الذي ينقل هذه المعلومة. ولكن أيضاً يشبهها برقصة التانغو ويقول بأنّ هناك من يقود هذه العلاقة، ويظهر بأنّ المصدر (أي السياسي) هو هذا القائد، بينما يلعب الصحفي دور التابع.بعض الحالات العملية الاستخدام السياسيمن المهم أن نضيء على بعض حالات الاستخدام السياسي لمصطلح المعلومات الزائفة، بوصفه تهمة، في السياسة الاسكندنافية. كمثال، في 2018 قام السياسي الدنماركي Mattias Tesfaye باتهام الصحفي السويدي Carsten Jensen بنشر المعلومات الزائفة أثناء كتابته في صحيفة DN السويدية محذراً من تحوّل الدنمارك إلى اليمين. ليضطرّ بعدها السياسي إلى اتخاذ موقف الدفاع عن موقفه.في النرويج أيضاً نشهد اتهامات شبيهة، حيث اتهم السياسي Mazyar Keshvari قناة TV2 النرويجية بنشر معلومات زائفة حول سياسات الهجرة، وأنّ هذه المعلومات الزائفة ليست مصادفة أو نابعة عن سوء تقدير، بل عن منهجيّة تهدف للتضليل.أمّا في السويد، فلدينا الكثير من هذه الأمثلة، والتي تنشط أيّام الانتخابات. ربّما حديث يمي أوكيسون الأخير، الذي بثّه بمساعدة الذكاء الاصطناعي باللغة العربية، هو أبلغ مثالٍ عن قيام حزب يميني سويدي باتهام بقيّة الأحزاب، ووسائل الإعلام أيضاً، بالافتراء عليه وعلى حزبه، واستخدام المعلومات المزيفة بشكل منهجي ومضلل.خوف وحقيقة وتشابك مقلقعند الاطلاع على بحثٍ صادر عن جامعة زيوريخ، يمكننا أن نستخلص أمراً شديد الأهميّة في سياق البحث من أجل الوصول إلى استنتاجات ذات قيمة. عندما تمّ سؤال السويديين عن ثقتهم بوسائل الإعلام عامة، كانت النتيجة هي أنّ 3.01 من أصل خمسة يثقون بالإعلام. لكن عندما كان السؤال يشرح المقصود بالإعلام (دون تغيير السؤال، فقط توضيح المقصود بالإعلام: راديو وتلفزيون وصحف ومواقع رقمية، ووسائل إعلام رئيسة وفرعية)، كان معدّل الثقة يهبط إلى 1.16.إنّ تقرير رويترز الرقمي يظهر بأنّ 49٪ من السويديين الذين تمّ استطلاعهم قد أبدوا مخاوف وقلق من المحتوى الزائف والمضلل للمعلومات في وسائل الإعلام المختلفة. لكن عندما كان يتمّ سؤالهم إن كانوا قد واجهوا من قبل بشكل شخصي أيّ محتوى مضلل أو زائف، كانت النسبة تهبط إلى 41٪، ثمّ تهبط أكثر عندما يتمّ سؤالهم إن واجهوا بشكل شخصي تحريفاً للحقائق السياسية أو تضليلاً بهذا المعنى، لتصبح النسبة فقط 14٪!.النتيجة الأمثل لنستخلصها من هذه الإحصائيات هي: الناس تدرك أن هناك أخباراً زائفة ومضللة، لكنّها لا يمكنها التمييز بين المضلل والحقيقي عندما تواجهه.محاولة منع المعلومات الزائفة في السويدمنذ عدّة سنوات، حاولت الحكومة السويدية أن توسّع جهودها من أجل مكافحة المعلومات المضللة والزائفة. لكن في حينه، كان التركيز كما قالت الحكومة، وعموم من اتفق معها، على حماية الانتخابات السويدية من الحملات الزائفة الخارجية، والتي كانوا يقصدون فيها روسيا.لكن إذا نظرنا بعد ذلك إلى حملات التضليل، التي جاوزت في حدودها السويد، والخاصة بالسوسيال والرعاية القسرية للأطفال، سنجد بأنّ التصرفات الحكومية كانت قاصرة، وأنّ السلطات التي أعلنت رفع الجاهزية والتحذيرات من الخطر على أمن السويد، لم تجد لها صدى بمعنى عملي لمكافحة التضليل الإعلامي.يمكننا أن نرى في مقال بحثي لي، نشرته "أكتر"، بعنوان: "السوسيال وتشويه سمعة السويد.. من المستفيد وما هي وسائله؟"، كيف تمكّنت حملات التضليل ليس فقط من تحوير الرأي والتلاعب بالعقول، بل أيضاً إلى تشكيل خطر على السويد، سواء من الداخل عبر إذكاء نار المشاكل الاجتماعية، أو الخارجي عبر وضع السويديين في خطر.إنّ ما أظهرته مشكلتا: "السوسيال" و"إحراق القرآن"، أنّ هناك نقصاً في السويد في وسائل الإعلام التي تخاطب المجموعات العرقية والدينية المتنوعة بلغتها، وبثقافتها. وعندما نقول: "نقصاً"، فنحن لا نتحدّث هنا عن النقص العددي، بل عن النقص النوعي.يحتاج الجمهور العربي والمسلم في السويد كمثال، ليتشابك بعلاقة طويلة المدى مع إعلامٍ يضع ثقته فيه، فالمشكلة الموجودة في الإعلام الناطق بالعربية اليوم في السويد هو أنّها: إمّا قديمة ومستنفزة من الناحية الفكرية، فتجدها تردد صدى ما تقوله المؤسسات بشكل أصم دون تحويله ثقافياً ليصبح مقبولاً من الجمهور العربي والمسلم في السويد، أو أنّها قاصرة عن أن تصبح موثوقة بالمطلق لعدّة أسباب، ربّما أهمّها نقص الكوادر والسعي للربح السريع ولو على حساب المصداقية.في الختام…لا يوجد عموماً نقصٌ في آليات تفحّص الحقائق في السويد وفي الدول الاسكندنافية عموماً، فبين المبادرات والعمل الصحفي، ومواقع تفرّعت بمجموعها عن Politifact التي كانت سبّاقة وحازت على جائزة بوليترز للصحافة.لكن هناك نقصٌ في وسائل ومنصات الإعلام القادرة على الثبات على موقفها في كونها مصادر موثوقة للأنباء.كما رأينا، فليس الجمهور العربي في السويد وحده من يعاني من مواجهة المعلومات الزائفة والمضللة، ووسائل نشرها. لكن من المهم لـ "أكتر" كمنصّة إعلامية ناطقة بالعربية في السويد، أن تحاول ليّ يد الإحصاءات لاستخلاص نتائج تناسب جمهورها بشكل خاص.من هذا المنطلق، ولأنّ "أكتر" تواجه - مثلها في ذلك مثل بقيّة الإعلام الذي يرفض التخلي عن التدقيق وفحص المعلومات والأخبار وتمحيصها - مشكلة المعلومات الزائفة بشكل يومي، فقد كان من المهم أن تضع عدّة قواعد وممارسات تخفّض نسبة الوقوع في الخطأ إلى مستوى الصفر. وقد أثبتت هذه القواعد والممارسات نجاحاً كبيراً، وسلّطت الضوء على مواطن الضعف لتخطيها.إن أردنا أن نكون واقعيين، فالضغوط الجماهيرية والاجتماعية التي تواجهها أيّ منصّة إعلام عاملة في السويد هي كبيرة، ولكن يمكن تخطي هذه المشكلة في سياق عدم الوقوع في فخّ الزيف الإعلامي عبر اتباع الخطوات التالية:أولاً، ضمان وجود كادر مؤهل ضمن المنصّة، لديه خبرة في تدقيق المعلومات ومصادرها. فكما بدا لنا سابقاً، "فرقصة التانغو" الإعلامية يجب أن تُضبط بحيث لا يكون المصدر قادراً على قيادة الخبر بشكل كلي، بل أن يكون هناك آلية تدقيق أعلى من المعلومة.ثانياً، عدم الرضوخ لضغط وسائل التواصل الاجتماعي، وخاصة تلك التي تعتمد آليات تدقيق للحقائق مصممة لبلدانٍ أخرى.ثالثاً، الاقتناع وفهم أنّ الجمهور، وكما بات واضحاً من الإحصاءات، لا يمكنه في الكثير من الأحيان أن يفرّق بين المعلومات الزائفة من جهة، والحقيقة من جهة أخرى، وذلك رغم أنّه مدرك تماماً لما يسمى بحملات التزييف والتضليل. وفي الحقيقة هذا ليس ذنب الجمهور، بل ذنب المنصّات القادرة على إيهامه بحقيقية الفكرة بالاعتماد على مخزونٍ كبيرٍ من الآليات النفسية.