أخبار السويد

خلف ستار العار: شراء الجنس في السويد وفهم دوافعه المعقدة

خلف ستار العار: شراء الجنس في السويد وفهم دوافعه المعقدة
 image

عروة درويش

أخر تحديث

Aa

شراء الجنس

الباحثة يلفا غرونفال من جامعة مالمو

في الوقت الذي لا تزال فيه النظرة الاجتماعية للذين يشترون الجنس على حالها دون تغيّر محسوس، والتي تتسم عموماً بوصمهم بالعار والخجل، فإنّ النظرة الأكاديمية لهؤلاء قد تغيّرت بشكل كبير في العقود الماضية. يأتي عمل الباحثة يلفا غرونفال Ylva Gronvall، من جامعة مالمو، ليثبت هذا الأمر، وليفتح آفاقاً شديدة الأهميّة في تعزيز مساعي مكافحة شراء الجنس في السويد، وكذلك إضافة منظور هامّ على الصعيد العالمي لكيفيّة التعامل مع مشتري الجنس بطريقة فعّالة، بهدف مساعدتهم، ومساعدة المجتمع عبر مدّ يد العون لهم.

Foto:TT

إنّ أهميّة البحث جعلتنا نفكّر بالكثير من الأسئلة، يأتي على رأسها: هل الوصمة والتفاعل معها يختلفان باختلاف قوميّة أو عرق الأشخاص في السويد؟ ماذا عن المؤسسات المعنية في السويد والتي عليها أن تستخدم هذه النتائج لتكييف السياسات كما ينبغي لتحقيق هدفها؟ حاولنا عبر القراءة المتعمقة، والتواصل مع الباحثة، ومع المؤسسات المعنية، أن نجد إجابات على هذه الأسئلة الهامة في مقالنا الصحفي-البحثي هذا، خاصة أنّ بعض من قابلتهم الباحثة يشتري الجنس منذ أربعين عاماً كاملة!

لكن قبل المضي أكثر في مقالنا، من المهم أن نذكّر بالقانون السويدي الذي ينظّم شراء وبيع الجنس. القانون السويدي، الذي أقرّ منذ عام 1999، وخضع لبعض التعديلات فيما بعد، يعتبر أنّ بيع الجنس ليس جريمة، ولكنّ شراء الجنس جريمة يُعاقب عليها، والتبرير النظري الذي طرحه السياسيون حين إقراره أنّ عرض النساء للجنس ناجمٌ عن "قمع اجتماعي أبوي". هناك اختلافات على مدى نفع القانون في الحد من الجنس، حتّى أنّه، في 2015، أصدر الباحث ياي ليفي Jay Levy كتابه البحثي بعنوان: "تجريم شراء الجنس - دروسٌ من السويد"، رأى فيه أنّ القانون لم يفشل في تحقيق مبتغاه وحسب، بل صعّب مهمة الشرطة في مكافحة ظاهرة الدعارة، ووضع النساء العاملات في الجنس في حالة خطر أعلى.

بالرغم من ذلك، فقد قامت عدّة دول، مثل النرويج وفرنسا، بإقرار قوانين مشابهة للقانون السويدي، والذي بات يُعرف باسم "النموذج السويدي" أو "النموذج الاسكندنافي".

Foto: TT

السياق السويدي

تشرح الباحثة غرونفال في دراستها بأنّ الفهم السياسي المهيمن في السويد في العقود الأخيرة، قد فسّر شراء الجنس بأنّه جزء من عنف الرجال ضدّ النساء، حيث يُظهر هذا الفهم بأنّ البائع هو أنثى وهي ضعيفة، بينما المشتري هو ذكر وهو مفترس. من هنا فإنّ شراء الجنس في السياق السويدي هو أمر له وصمة سوء وعار تلاحق مرتكبه.

لكنّ المشكلة هنا أنّ أغلبية الأبحاث قد ركّزت على بائعات الجنس، ولم تغطي المشترين، فأدّى هذا إلى خلق فجوة في فهم سلوكهم والطرق المثلى للتعامل معهم ومساعدتهم. فالنظرة السائدة هي "النظرة القمعية"، أي أنّ مشتري الجنس مجرّد جزء في حلقة قمع النساء واضطهادهن. فرضت هذه النظرة الأحاديّة على المزيد من الباحثين أن يتخلوا تدريجياً عن التركيز على كون شراء الجنس هو مجرّد عملية تسليع بشري، وعن المبررات السطحية المقتصرة على أنّه نوع من الاستهلاك. وحتّى الذين خرجوا من عباءة هذا التفسير المباشر، ووجدوا بأنّ البحث عن الحميمية في العلاقة هو الدافع، لم يبحثوا بشكل عميق في هذا الأمر.

لكنّ بحث يلفا أظهر بأنّ الدوافع لشراء الجنس معقّدة بحيث لا يمكن اختزالها بهذا الشكل المبسّط. لكن ليست يلفا هي الوحيدة التي بدأت البحث في تعقيد دوافع شراء الجنس، كما تقرّ بذلك بنفسها. ربّما الأبرز بينهم هي تيلا ساندرز Teela Sanders التي أظهرت في كتابها البحثي بعنوان: "الدفع لقاء المتعة: رجال يشترون الجنس" أنّ عدداً كبيراً من الذين يشترون الجنس يفعلون ذلك بسبب عدم قدرتهم على التمييز بين الحميمية التي يحصلون عليها من علاقة تجارية، أو من علاقة غير تجارية! فهؤلاء ينظرون إلى الجنس التجاري بوصفه تجربة تحمل في طيّاتها الخصوصية والحميمية ذاتها التي يتمتع بها الشخصان في علاقة اعتيادية. 

تؤكد غرونفال على أهميّة إدراك التعقيد الذي يحيط بهذه العلاقات، وتفريقه عن مشتري الجنس العابرين الذين يكون دافعهم الرئيسي هو الاستهلاك. ولهذا فإنّها سعت من خلال بحثها لاكتشاف أساسات وهياكل هذا التعقيد، لتعرف ما الذي تعنيه الحميمية بالنسبة للسويديين الذين يشترون الجنس، وكيف يصف هؤلاء علاقتهم بالفتيات اللواتي يدفعن لهنّ المال. الأمر الآخر هو وجوب البحث أعمق بالتعاون مع اختصاصيي الخدمات الاجتماعية، لمعرفة الطريقة المثلى للتعامل مع هؤلاء الرجال.

مشترو الجنس من ثقافات وخلفيات أخرى

لا يمكن للمرء أن يمرّ مرور الكرام عندما يقرأ جملة "السويديين الذين يشترون الجنس"، ففي هذا السياق، هل السويديون هم فقط من ذوي الأصول السويدية، أم أنّ الباحثة أخذت في اعتبارها تنوّع سكّان السويد، وبذلك ذهبت أعمق للتفريق بين مشتري الجنس وفقاً لأصولهم العرقيّة والثقافية المختلفة؟ سأعطي مثالاً على ما أقصد: بالنسبة للعرب، فإنّ شراء الجنس يحوي وصمة عارٍ كبيرة، ولكنّ ذلك يعود تقليدياً لأسباب ثقافية مختلفة عن الوصمة التي تتبع الرجال الغربيين. فهل وضعت الباحثة في الحسبان ذلك؟

 لهذا قمتُ بالتواصل مع الباحثة وطلبتُ منها أن تجيب على سؤال: "كيف تتفاعل القيم والأعراف من خلفيات ثقافية مختلفة مع الوصمة والتصورات المجتمعية الموجودة داخل السويد؟". أجابت يلفا بأنّ التركيز على الثقافات المتنوعة لم يكن ضمن المعطيات التي اتبعتها أثناء إجراءها المقابلات والبحث. لكنّها أضافت بأنّ جميع المشاركين في دراستها قد ولدوا في السويد باستثناء واحد جاء من خارج السويد، ولكنّه يعيش فيها منذ عدّة عقود، ويعرّف نفسه على أنّه سويدي. يعني هذا أنّ الدراسة لم تأخذ بالحسبان خصوصيّة جزءٍ كبيرٍ من الذين يعيشون اليوم في المجتمع السويدي، ولكنّه لا يستبعد الذين ولدوا في السويد وينحدرون من أصولٍ أجنبية.

لكنّ فجوة عدم التمييز الثقافي والديمغرافي الموجودين في بحث يلفا، يمكن سدّها عبر الرجوع إلى بحثِ تيلا ساندرز. ورد في بحثِ ساندرز: بأنّه لا توجد فروق بين الرجال الذين يشترون الجنس، سواء من حيث العرق، والخلفية التعليمية، والطبقة الاجتماعية والاقتصادية، والانتماء الديني، ودخل الأسرة، والطيف السياسي، والحالة الاجتماعية.

بل إنّ إحدى النتائج كانت مثيرة للاهتمام، حيث تبيّن بأنّ الرجال الذين يملكون عدداً أكبر من الشركاء الجنسيين في حياتهم، يكونون أكثر عرضة للانخراط في الجنس التجاري. مع وجود نتائج متضاربة فيما يتعلّق بالتقدّم بالسن، ومعاناة الطلاق، وأنماط العمل المتنقل، لكنّ الأرجح أنّها تشير جميعها لازدياد الرغبة في شراء الجنس. الأمر الآخر المثير للاهتمام المقابلة التي اضطّرت الباحثة لإنهائها لأنّ مشتري الجنس المدمن أظهر نمطاً عنيفاً وآراء متطرفة مسيئة متعلّقة بالنساء، وبالعنصرية تجاه المجموعات الأخرى، وبازدراء القوميات الأخرى.

النتيجة الأخيرة الهامة فيما يخصّ الخلفيات الثقافية المتنوعة، هي أنّ الرجال القادمين من بلادٍ وأماكن فيها تخلّف تكنولوجي عام، مثل عدم اعتياد هؤلاء الرجال على استخدام الإنترنت بشكل منتظم في مناحي حياتهم اليومية، كانوا يميلون لشراء الجنس من الأحياء والمناطق الأقرب لهم، ومن الأشخاص والأماكن التي يسهل الوصول إليها بشكل حسي.

موقف الاختصاصيين الاجتماعيين

الجزء الآخر الذي تغوص فيه يلفا، ويبدو أنّه جزءٌ فائق الأهمية بسبب الاكتشافات التي توصّل لها، هو تفاعل ومواقف الاختصاصيين الاجتماعيين الذين تكون مهمتهم متابعة قضايا مشتري الجنس. ربّما أهمّ ما جاء في بحثها في هذا السياق هو تنقّل هؤلاء بين التركيز على الفرد ووضعه، مع وجود آراء أخلاقية ومحاولات من البعض لإحداث تغيير من خلال الخطاب الأخلاقي والعقاب، وبين انزعاجهم من التركيز في السويد على التعامل مع هذه الظاهرة بوصفها جريمة ومشكلة عقلية، وليس بوصفها مشكلة اجتماعية.

عندما سألتُ الباحثة من جامعة مالمو عن التحديات التي عبّر عنها الاختصاصيون الاجتماعيون أثناء محاولاتهم أداء عملهم ودعم الأشخاص الراغبين في تغيير مسار شراء الجنس، أجابت بأنّ الاختصاصيين كانوا منزعجين من الوصمة والعار المرتبط بشراء الجنس، والذي يجعل رغبة المرء في تغيير حياته وطلب المساعدة للتوقّف عن شراء الجنس أمراً أصعب وأكثر إرعاباً.

لكنّ الاختصاصيين الاجتماعيين كانوا متضايقين بشكل خاص من أنّ التركيز الأساسي هو على دور الشرطة وتطبيق القانون بدلاً من التركيز على علاج الظاهرة وآثارها الاجتماعية، ما يجعل من مهمتهم في الوصول إلى مشتري الجنس من أجل مساعدتهم في الإقلاع عن عاداتهم صعبة للغاية، وكذلك من مهمتهم كسب ثقة هؤلاء للتعامل معهم كما ينبغي.

السياسات المطلوبة

ببساطة، عندما تحتاج لمحاربة ظاهرة ما، لا يكفي أن تحاربها عبر وضع القوانين، ولا يكفي أن تسنّ القوانين وفقاً لرغباتك. الأمر يخضع للكثير من الاعتبارات، منها نتائج الدراسات الاجتماعية الهامّة مثل دراسة يلفا.

سألتُ يلفا عن رأيها الخبير في التعديلات على السياسات والمبادرات المطلوبة من أجل التقليل من الوصمة المرتبطة بشراء الجنس، وخلق جوّ أكثر تعاطفاً مع تعقيدات الوضع بما يسمح بعلاجه بشكل أفضل، سواء كظاهرة أو على المستوى الفردي.

لخّصت لنا يلفا نتائج دراستها في هذا الخصوص بشكل سلس: من المهم جداً أن يكون من السهل على الأفراد اللجوء لطلب الدعم، ومن المهم جعل التواصل مع الاختصاصيين الاجتماعيين سهل. لكنّ الأمر الآخر الذي أعادت التأكيد عليه هو فتح نقاش عام للتأثيرات والعواقب لأيّ سلوك أو سياسة، وأن يتمّ إشراك الشرطة وعاملي الخدمات الاجتماعية في الأمر. المثال الأبرز وفقاً ليلفا هو: عندما يتعلّق الأمر بالحفاظ على سريّة بيانات الأشخاص الراغبين بالتواصل مع الخدمات الاجتماعية من أجل الحصول على الدعم، وعدم كشف هوياتهم للشرطة.

كانت الخطوة المثالية لنا هنا أن ننقل وجهة النظر هذه، ونتواصل مع المؤسسة المعنية بمكافحة الدعارة والإتجار بالبشر في السويد: وكالة المساواة الجنسية Jämställdhetsmyndigheten، من أجل بناء جسرٍ لتعزيز العمل الصحفي في السويد. لهذا قمتُ بالتواصل مع سيمون فالك Simon Falk، المسؤول الصحفي في الوكالة. 

كان فالك متعاوناً ومتحمساً في أن يكون صلة وصل بيننا وبين وحدة "الدعارة والاتجار بالبشر" في الوكالة. لكنّ المشكلة التي واجهتنا هي أنّ بحث يلفا جديد، وأنّ الوحدة لم تتح لهم الفرصة بعد للاطلاع عليه بشكل معمّق من أجل الاستفادة من نتائجه على أكمل وجه. لكنّ الجيّد في الأمر أنّهم يشعرون بالحاجة للمزيد من الأبحاث في هذا المجال، فكما قال فالك: "نحن بالتأكيد نرى الحاجة إلى مزيد من البحث ونرحب بالأبحاث الجديدة في هذا المجال. لم يتح لنا الوقت الكافي لقراءة هذه الدراسة بعمق لهذا لا نستطيع التعليق عليها في هذه اللحظة. لكن إذا وجدنا أن لديها رؤى ذات صلة، فسنستخدمها بالطبع في عملنا".

في الختام..

ماذا عن المستقبل، وما هي المجالات التي على الباحثين أن يغوصوا أكثر في أعماقها بهدف منحنا فهماً أفضل. هذا ليس سؤالاً بلاغياً، بل هو جانب قد يغيّر الكثير من السياسات ومن فهمنا لموضوع شراء الجنس، والتعقيدات التي تحكم تصرّفات مشتريه في السويد.

كانت يلفا حاضرة للإجابة، فإذا ما أردنا تعميق فهمنا لمجال عمل شراء الجنس، وآثاره الاجتماعية الأخرى، فسيكون: "من المثير للاهتمام دراسة تأثير العقوبات الأقسى على جريمة شراء الجنس، سواء تأثيرها على الأفراد الذين يشترون الجنس، أو تأثيرها على العمّال الاجتماعيين وعلى عملهم مع هذه الفئة".

أخبار ذات صلة
المزيد من أخبار - أخبار السويد

أكتر هي واحدة من أكبر منصّات الأخبار السويدية باللغة العربية وأسرعها نمواً.

توفّر المنصة الأخبار الموثوقة والدقيقة، وتقدّم المحتوى الأفضل عبر النصوص والأفلام الموجّهة لعددٍ متزايد من الناطقين باللغة العربية في السويد وأجزاء من الدول الاسكندنافية وبقية العالم.

تواصل معنا

Kaptensgatan 24, 211/51 Malmö, Sweden
VD -  Kotada@aktarr.se

Tipsa -  Press@aktarr.se

Annonsera -  Annonsering@aktarr.se

للاشتراك بالنشرة الاخبارية

متابعة أخر الاخبار و المواضيع التي تهمك

2023 Aktarr جميع الحقوق محفوظة لمنصة ©